نسأء مثل الأرز !
أظنني سمعته يسألني للمرة الثالثة إن كنت أعددت العشاء ..
لست متأكدة من العدد ..إن كان ثلاثة أو أكثر.. مادام الزر جاهزا للنقر عليه ، وللاستجابة البرقية المضمونة .. كما أن روبوت الخدمة السريعة لم يتجاوز بعد ، مدة الصلاحية !..وأظن أنكم بلا كبير عناء خمنتم أن الأمر يتعلق بي، وأن الروبوت هو حضرتي ولا فخر!
المهم .. بل المفجع من وراء هذه المقدمة الطللية الشجية ، أنه سألني بكل حرارة الجوع عن العشاء ، ولم يسألني مثلا عن فستاني الجديد ، ولونه الفستقي الطارئ الحلول على خزانة ملابسي المكتظة بالملابس الكابية!! ..
وكنت اخترت هذا اللون " المقرقش" ، لعلي أحدث تماسا كهربائيا في عينيه الرخاميتين، ثم قلبه إذ تقع عيناه عليه محتنكا جسدي ، !! ملتحما بتضاريسه الأكثر إثارة وإغواء..فيسقط صريع حبي كما لو كنا التقينا لأول مرة..
لكن حزروا فزروا ، لا شيء من ذلك حصل!..
هل هو مصاب بقبض عاطفي مزمن؟!
ما ضره لو كان قال مثلا ..يعني مثلا أني رائعة في هذا المرج الأخضر، وأني وردة آسرة وسط عرس من ربيع يانع ..
أو يقول مثلا ، يعني مثلا، كما يقال في الأفلام المصرية :
يا أرض احفظي ما عليك ..تجنني .. قمر أربعطاشر!..
أو كما يقال في الأفلام المغربية :
غزالة تبارك الله عليك , غير حمامة وكا تمشي فالرياض..
أو كما يقال في الأفلام الفرنسية
magnifiqueوآ آ آ آ آ وو.. ..
كأنه حجارة وإن من الحجارة لما يشقق ويخرج منه الماء!
................................................
..وأبصرته من طرف خفي يتفحصني بازدراء وهو يحوقل مستنكرا :
ـ آش هاد اللون المشعشع ..ِفتمتمت بين أضلعي غير مهتمة، وقد تعودت منه تلك الغلظة المقيتة التي لا تفسد للصبر قضية:
آش كا يعرف الجمل في لباس التقاشر!
.......................
حرصت على أن لا أكسر رومانسية المحطات البلورية الهشة تلك، وأنا أتحرى لحظة جلوسه إلى المائدة لأضع بين يديه وصفة طاجين السمك التي أعددتها احتفاء بعودته من سفر العمل الذي امتد لأسبوع خارج البلد ..
منذ ساعات الصباح الأولى رقدت سمك الشرغو في توابل الحوت الحريفة وأجهدت يداي لتزيينه بكل الألوان الزاهية ..فبدا الطاجين أشبه بلوحات رسامي الطبيعة، ناضحا حمرة وخضرة وصفرة زعفرانية ..
سيأكل حتما أصابعه وراءه قلت منتشية وأنا أضع اللمسات الأخيرة على لوحتي..
وهو الذي يعشق أكلات السمك ، لن يجد مثيلا لوصفتي تلك.
..وطال صبري ٌقرب مائدة العشاء ..
قبل قليل كان يستعجلني للأكل ، وهو الآن ينقر بهمة أزرار الحاسوب في الغرفة الأخرى ..
كأنه لم يتغيب لمدة أسبوع ، بل كأنه بات إلى جانبي !..
ورأيت نفسي وأسلاك دماغي تصاب بتماس كهربائي والعفاريت تتنطط برأسي أندفع صوبه وأنا عازمة على فرقعة الرمانة كما يقال ..
لم يعد من مجال للسكوت ..انتهى زمن الهوان..ألا يقال : من استغضب ولم يغضب فذلك حمار!
لم يهاتفني طيلة الأسبوع .. وحين عاد قبلني ببرود كما لو كنت جدته لا زوجته!.. ولم يحضر لي أية هدية كما كان يفعل في كل أسفاره .
ـ إسمع يا .. ..قلت وأنا أتعمد إذكاء بعض من جمر قد يكون لا زال مرابطا بالمدخنة.
ألم تشتق إلي ..ألا يهمك إلا بطنك كالثعبان ؟؟!
رشقته وأنا أراه يتوجه إلى المائدة..
ـ اطمئني قال بسخرية، وهو يهز غطاء الطاجين ويعيده إلى وضعه وينسحب من المائدة
لن آكل وصفتك الشهية ، فقد تناولت طبق طاجين الشرغو، قبل أن آخذ القطار إلى البيت
ـ في المطعم ..أم في بيت أصدقائك وصديقاتهم قلت وأنا أتميز من الغيظ!
ـ لا يهمك ..
قال بحدة مباغتة
وأردف مهددا :
ـ كا تقلبي علا جوا من جل .. احمدي الله على هذا البيت .. فالنساء كي البيض المنقي ولا أحد يسأل فيهن!! ..وعوض صداع الرأس جهزي لي ملا بس الحمام .
.لم أنبس ببنت شفة وانحنيت على معطف السفر الذي رماه على الأريكة في البهو ، لأضعه في الدولاب فصفعتني رائحة عطر نسائي حاد ..فنكصت على عقبي إلى حيث طاجين السمك لازال ممددا ، يرمقني بعينين زجاجيتين وديعتين ..
لا مفر.. زفرت في نفسي ..
كالعادة سأحل مرة أخرى ، ضيفة على نفسي ، لأقاسم طاجين الحوت غربتينا ..
وحتى أخفف عنه عناء الفناء ، سأقول له عكس ما يقوله الآخرون :
" شوف فيا نشوف فيك يا طاجين الحوت أنت طبت وأنا غادي ناكلك" ، لا كرها فيك ، ولا لأني أريد تصفية حسابات قديمة معك ..ولا لأني أريد أن أصرف في التهامك حنقي ، فأنت أشرف من حسابات صغيرة كهذه ..
أنت الذي قطعت بحارا مديدة ، وأغوارا شائقة سمتها الغرابة والغموض ، لتنبطح بين يدي قربانا ذليلا شهيا سخيا لا خشبة عصية على العطاء كميت الغربة ..
وبدون شك سيقول لي طاجين السمك :
ـ شهية طيبة سيدتي الوحيدة
وسأرد وأنا أستعيد أنوثتي المطعونة ،فأبرز بحركة خفية فتحة فستاني الفستقي وأميل برأسي، وبصوت عذب ،سأودعه كل الرقة والسحر.,
ـ وأنت كذلك ، شهية طيبة يا عزيزي الطاجين.
وبعد ذلك سنطفئ الأضواء معا وسأحتفي بأشلائه الضريجة على مائدة طعامي، ولحمه الثاوي بين لحمي وعظامي ..
وعرفانا له سأنام قريبة من رفاته بغرفة المطبخ..
نعم ، غرفة المطبخ ..لا تستغربوا..
أليست هي هويتي وعنوان إقامتي ، ومحضن تعاساتي بعد كل شيء؟؟!!